الإمبريالية الاقتصادية للولايات المتحدة
شكل احتلال العراق تجربة غير مسبوقة للإمبراطورية الأمريكية. فعلى خلاف الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، كالحكم الاستعماري الفرنسي والبريطاني لمنطقة الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين، قامت الإمبراطورية الأميركية إلى حد كبير على الهيمنة الاقتصادية أكثر منها على الإدارة المباشرة للمستعمرات. وتتضمن الهيمنة الاقتصادية إعادة هيكلة اقتصاديات البلدان بحيث تتمكن الولايات المتحدة من استيراد المواد الأولية التي تحتاجها من هذه البلدان بأسعار زهيدة، وفي نفس الوقت تجعل هذه البلدان معتمدة في وارداتها على منتجات الشركات الأمريكية المرتفعة الأسعار. ولتحقيق هذه الهيمنة، يستحسن أن تكون اقتصاديات هذه البلدان بقدر الإمكان ملكية خاصة، ومن الأفضل لشركات أمريكية. وهكذا، لن يكون بمقدور حكومات هذه البلدان الضعيفة فرض الضرائب على نشاطات الشركات المتعددة الجنسية في بلدانها أو تنظيم أعمالها، ويصبح من الممكن رشوة هذه الحكومات أو إغوائها بضرورة دعم مصالح الولايات المتحدة على الصعيد الدولي.
إن الهيمنة الاقتصادية أقل كلفة وأسهل من الحكم المباشر المفروض بالقوى العسكرية، كما أنها غير بادية للعيان كالحكم المباشر. ولهذا، فمن الواضح أن مصالح الولايات المتحدة تستدعي إنهاء احتلالها المكلف والدموي للعراق بالسرعة الممكنة. فالاحتلال العسكري ضرورة آنية لحين إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وضمان تثبيت الاحتلال الاقتصادي لأمد طويل.
لقد كشفت كتابات المحافظين الجدد عن أجندة الولايات المتحدة في هذا المجال، كما تجسدت هذه الأجندة في القوانين العديدة التي أصدرها بول بريمر في محاولة لإرساء قواعد اقتصاد يخدم مصالح الولايات المتحدة، منتهكاً بذلك اتفاقيات جنيف ولاهاي. وبالطبع حالت مقاومة أعضاء الاتحاد لقوانين وتعليمات بريمر المتعلقة بالرواتب، بالإضافة إلى معارضة أعضاء مجلس الحكم، من تنفيذ بعض هذه الأوامر. والمؤشر الآخر على أجندة الولايات المتحدة هو حثها العراق على توقيع اتفاقية نادي باريس (وسأتطرق لهذا لاحقا) قبل شهرين من انتخابات كانون ثاني، إذ تخوفت الولايات المتحدة أن تأتي الانتخابات بحكومة قد تكون أقل استعدادا للتوقيع وأقل قبولا للأجندة الأمريكية الاقتصادية.
وتبين تجارب الشعوب في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا الشرقية وأسيا خلال نصف قرن بوضوح أساليب الامبريالية الاقتصادية وطرق عملها. فالأدوات المستخدمة باستمرار هي الدين الخارجي وصندوق النقد الدولي. وفي هذه الورقة، سأبين ما تعنيه هذه الأدوات للعراق وما يمكن للعراقيين فعله للدفاع عن مصالحهم الوطنية.
صندوق النقد الدولي
نم تأسيس صندوق النقد الدولي، والمؤسسة الشقيقة له البنك الدولي، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مؤتمر عقد في برتون وود في الولايات المتحدة. وفي هذا الاجتماع، تم أيضا وضع التصور لمنظمة التجارة الدولية التي أسست لاحقا. وتم تأسيس كلا من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وفقا لنموذج المؤسسات المساهمة. فمعظم البلدان في العالم تملك حصة صغيرة في المؤسستين، وتملك الولايات المتحدة 17% من الأسهم، ولذا يمكنها أن تتحكم بشكل كبير ومباشر في سياسات هاتين المؤسستين. وتتمتع الولايات المتحدة بنفوذ كبير داخل صندوق النقد الدولي، نظراً لوقوع مركزه الرئيسي في واشنطون على بعد بضعة مئات من الأمتار من البيت الأبيض، ولأن معظم موظفيه من المناصرين الأشداء لمبادئ الاقتصاد الحر، هذا الاقتصاد الذي يعمل بشكل عام لصالح الدولة الغنية، وخاصة الولايات المتحدة.
إن الهدف الأصلي من إنشاء صندوق النقد الدولي كان معقولا إلى حد ما، إذ كان من المفترض أن يكون الصندوق آخر من تلجأ إليه الدول التي تعاني من مشاكل السيولة النقدية على المدى القصير طلبا للقروض. إلا أنه سرعان ما وسع الصندوق مجال عمله ليصبح سلطة تكرس سياسة اقتصادية بعينها. وترتكز هذه السياسة على سلة من الإجراءات تتمثل في الخصخصة وإزالة القيود المفروضة على التجارة. وتناسب هذه إجراءات مصالح الحكومة والشركات الأميركية، ونادرا ما تكون لصالح رفاه شعوب البلدان التي تطبقها، أو حتى تنمية هذه البلدان.
فلو كان صندوق النقد الدولي مؤسسة لتقديم المشورة فحسب لكان بإمكان البلدان أن تتجاهل توصياته. إلا أن الصندوق يملك السلطة لفرض سياساته الاقتصادية من خلال الطلب من البلدان التي تحتاج إلى قروض من الصندوق أو من البنك الدولي (الذي يرأسه الآن بول ولفوفتز، نائب وزير الدفاع السابق ومهندس الحرب على العراق) أن تتقيد بتوصياته الاقتصادية حتى تتأهل للاستفادة من القروض. والعراق اليوم مؤهل وفقا لبرنامج الصندوق "المساعدات الطارئة لحالات ما بعد النزاع" (EPCA)، وقد تم الطلب منه تنفيذ سياسات بعينها.
بالإضافة إلى هذا، تضغط الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية على البلدان لتقوم بتنفيذ توصيات الصندوق. ويقوم نادي باريس، وهو مؤسسة واسعة النفوذ تضم حوالي 20 من أكبر البلدان الدائنة، بالطلب من البلدان التي تحتاج إلى الإعفاء من الديون إلى تطبيق توصيات الصندوق لتصبح مؤهلة لطلب الإعفاء.
أمثلة على استخدام الدين لفرض الخصخصة
استخدم صندوق النقد الدولي وحكومة الولايات المتحدة الدين كوسيلة لفرض سياسة الخصخصة وغيره من الإصلاحات الاقتصادية في العديد من بلدان العالم، وسأورد هنا بعض الأمثلة: